في ذلك اليوم البارد قررت الخروج ولم تكن وجهتي قد حددت بعد...كل ما كنت اعرفه اني اريد الخروج من محيطي لبعض الوقت..ومن نفسي ان امكن....دوما كان الذهاب الى الحديقة الصغيرة المجاورة لبيتنا يشفيني من اي بوادر للاكتئاب وهكدا حددت وجهتي..كانت الحديقة كما عرفتها دوما..تنبض بالحياة...وتنبض بالاطفال اللاعبين في كل مكان والذين لم يتركوا كلبا ولا قطة ولا وردة ولاحتى المارة دون ان يعبثوا به ومعه..شيطنة..اعتادت نسرين ان تطلق هدا اللفظ على الاطفال كثيري الحركة....ولكن هل الشياطين كثيري الحركة...تنبهت الى انه دائما ماتدور تلك النقاشات العقيمة في ذهني عندما اكون وحدي...نفضت كل ذلك عن عقلي وجلست على احد المقاعد المتناثرة..استمتع بتلك النسمة الباردة التي تهب بين الحين والاخر...استمتع بصرخات الاولاد العالية...استمتع بالحياة..
ومن بعيد رأيت الحب...عجوز بعض الشئ ولكني تعرفت عليه رغم كل شئ...انها الرابعة والنصف عصرا وقت مناسب جدا في الشتاء لمشاهدة الغروب...جاء ذلك الرجل وزوجته لمشاهدته..حتما عمره يتجاوز السبعين وهي كذلك...وهو يحتضن يدها المجعدة بيده الاكثر تجعيدا..يمشيان وهم تقريبا يستندان على بعضهما..الا يتزوج الانسان لهدا الغرض..لكي يجد من يمسك بيده عندما تختفي جميع الايادي الاخرى...وتبقى فقط تلك اليد..حنونة..مواسية..باردة ولكن دافئة في نفس الوقت...تحمل احيانا كوب من الماء قبل الوداع الاخير...وتهديك دائما احساس الامان ان فقدته....تربت عليك ان مرضت...وتساعدك على الوقوف ان زلت قدمك في يوم ما ما
جلسا على المقعد المجاور لي يداعبان الاطفال ومن وقت لاخر تأتي الكرة عند اقدامهما فيرسلانها اليهم والضحكة تملئ وجهيهما...حملت لي تلك النسمة الباردة بعض من حديثهما عرفت منه ان اليوم عيد زواجهم الخامس والاربعين...لم يتخيل عقلي بعد كيف يمكن ان تعيش مع شخص ما كل تلك المدة ان تعرفه كل تلك المعرفة..ان تعرف عيوبه وان تعرف انه يشخر اثناء نومه..وانه يصدر اصوات عند اكل الشوربة...وانه يرمي ملابسه على الارض بعد خلعها...انه يتعصب لاتفه الاشياء...ومع ذلك تستطيع ان تتعايش وان تتحمل وان تعتاد على فكرة وجوده في حياتك..وان لا تسطيع ان تعيش بدونه...تسطيع ان تتقبله كما هو...ان تحبه كما هو...وعندما يرحل عنك تستطيع ان تبكي عليه من قلبك..لان خسارتك لايمكن ان تعوض
جلسا معا الى ما بعد الغروب...جلسا وكل شئ فيهما يبدو عجوزا ماعدا عيناهما.. تبدو عيناهما اصبى من اي عيون اخرى قابلتها .... ذلك البريق الدي تحتضنه...بريق...لمعة...تلألأ...كلها تفشي سرذلك الحب الذي لم يعد سرا منذ خمسة واربعين عاما...حتما تفتقد عيناي ذلك البريق ومع تنبهي لذلك احسست بشئ من الحسد..وتنبهت اكثر الى انني احسد عجوزين في السبعين على حبهما... ولكني لم ابالي...لأني في نهاية ذلك اليوم عدت لأكون مؤمنة بالاساطيرمن جديد..عدت لأؤمن بالنهايات السعيدة والعيش بسعادة لاخر العمر
نعم...في النهاية صنعت مكانا للأساطير في عالمي ..وللسعادة كذلك